فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)}.
اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أمورًا: أحدها: قوله: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في صفة أهل الثواب {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] وقال في صفة أهل العقاب: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27] وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سرورًا معجلًا للمؤمنين وغمًا عظيمًا للكافرين ثانيها: قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} إلى قوله: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم، والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلًا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} متبعوه من عصاة الإنس والجن وثالثها: قوله: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين}.
واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام، فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جمادًا يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم: {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار، وذلك أيضًا غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها.
فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة، والذي يحمل على أنه خطاب في الحقيقة قولهم: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون} وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] فأما قولهم: {فَمَا لَنَا مِن شافعين} كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين {وَلاَ صَدِيقٍ} كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] أو {فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101] من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس، أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع، لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم، والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك، أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص، وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك، فأعز من بيض الأنوق، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة، وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير، ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت.
قال الجبائي: إن قولهم {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبرًا عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقًا، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام.
ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يجده من تكذيب قومه.
فأما قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُم وَالْغَاوُونَ} فيها أربعة أوجه:
أحدها: معناه جمعوا فيها النار، قاله ابن عباس.
الثاني: طرحوا فيها على وجوههم، قاله ابن زيد، وقطرب.
الثالث: نكسوا فيها على رؤؤسهم، قاله السدي، وابن قتيبة.
الرابع: قلب بعضهم على بعض، قاله اليزيدي، قال الشاعر:
يقول لهم رسول الله لما ** قذفناهم كباكب في القَليب

{هُم وَالْغَاوُونَ} يعني الآلهة التي يعبدون.
وفي الغاوين قولان:
أحدهما: المشركون، قاله ابن عباس.
الثاني: الشياطين، قاله قتادة.
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم أعوانه من الجن.
الثاني: أتباعه من الإنس.
قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} فيهم قولان:
أحدهما: الملائكة.
الثاني: من الناس.
{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه الشقيق: قاله مجاهد.
الثاني: القريب النسيب، يقال حم الشيء إذا قرب ومنه الحمى لأنها تقرب الأجل، قال قيس بن ذريح:
لعل لبنى اليوم حُمّ لقاؤها ** وببعض بلاء إِنَّ ما حُمَّ واقِعُ

قال ابن عيسى: إنما سمي القريب حميمًا لأنه يحمى بغضب صاحبه، فجعله مأخوذًا من الحمية، وقال قتادة: يذهب الله يومئذٍ مودة الصديق، ورقة الحميم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وأزلفت} معناه قربت، و{الغاوون} التي برزت لهم الجحيم هم المشركون بدلالة أنهم خوطبوا في أمر الأصنام، والقول لهم {أي ما كنتم تعبدون من دون الله} هو على جهة التقريع والتوبيخ والتوقيف على عدم نصرتهم نحوه، وقرأ الأعمش {فبرزت} بالفاء والجمهور بالواو، وقرأ مالك بن دينار {وبرَزَت} بفتح الراء والزاي ورفع {الجحيمُ} ثم أخبر عن حال يوم القيامة من أن الأصنام تكبكب في النار أي تلقى كبة واحدة ووصل بها ضمير من يعقل من حيث ذكرت بعبادة، وكانت يسند إليها فعل من يعقل، وقيل الضمير في قوله: {هم} للكفار، و{الغاوون} الشياطين، وكبكب مضاعف من كب هذا قول الجمهور وهو الصحيح لأن معناها واحد، والتضعيف في الفعل بين مثل صر وصرصر وغير ذلك، و{الغاوون} الكفرة الذين شملتهم الغواية، و{جنود إبليس} نسله وكل وكل من يتبعه لأنهم جند له وأعوان.
{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)}.
ثم وصف تعالى أن أهل النار {يختصمون} فيها ويتلاومون ويأخذون في شأنهم بجدال، ومن جملة قولهم لأصنامهم على جهة الإقرار وقول الحق قسم {تالله إن كنا} إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم، ثم عطفوا يردون الملامة على غيرهم أي ما أضلنا إلا كبراؤنا وأهل الجرم والجرأة والمكانة، ثم قالوا على جهة التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإِيمان عمومًا، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} وفي هذه اللفظة منبهة على محل الصديق من المرء، قال ابن جريج {شافعين} من الملائكة و{صديق} من الناس.
قال القاضي أبو محمد: ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانه، ولفظ الصديق يقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود، والحميم الولي والقريب الذي يخصك أمره ويخصه أمرك وحامة الرجل خاصته وباقي الآية بين قد مضى.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآيات من قوله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء: 88] هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله عز وجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزى فيه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وأُزْلِفَت الجَنَّة للمُتَّقِينَ} أي: قًُرِّبَتْ إِليهم حتى نظروا إِليها، {وبُرِّزَت الجَحِيمُ} أي: أُظهرتْ {للغاوين} وهم الضالُّون، {وقيل لهم} على وجه التوبيخ {أين ما كنتم تعبُدون من دون الله هل ينصُرونكم} أي: يمنعونكم من العذاب، أو يمتنعون منه.
قوله تعالى: {فكُبْكِبوا} قال السّدي: هم المشركون.
قال ابن قتيبة: أُلْقُوا على رءوسهم، وأصل الحرف كُبِّبوا من قولك: كَبَبْتُ الإِناء، فأبدَلَ من الباء الوسطى كافًا، استثقالًا لاجتماع ثلاث باءات، كما قالوا: كُمْكِمُوا من الكُمَّة، والأصل: كُمّمُوا.
وقال الزجاج: معناه: طُرح بعضُهم على بعض؛ وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب، كأنه إِذا أُلقي يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مَرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها.
وفي الغاوين ثلاثة اقوال.
أحدها: المشركون، قاله ابن عباس.
والثاني: الشياطين، قاله قتادة، ومقاتل.
والثالث: الآلهة، قاله السدي.
{وجنود إِبليسَ} أتباعه من الجنّ والإِنس.
{قالوا وهم فيها يَخْتَصِمُونَ} يعني: هم وآلهتهم، {تالله إِنْ كَنَّا} قال الفراء: لقد كُنَّا.
وقال الزجاج: ما كُنَّا إِلا في ضلال.
قوله تعالى: {إِذ نُسَوِّيكم} أي: نعدلِكُم بالله في العبادة، {وما أضلَّنا إِلا المُجْرِمُون} فيهم قولان.
أحدهما: الشياطين.
والثاني: أولَّوهم الذين اقتَدَوا بهم، قال عكرمة: إِبليسُ وابنُ آدم القاتل.
قوله تعالى: {فما لنا من شافِعِين} هذا قولهم إِذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون.
وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله عز وجل: أخرجوا له صديقه إِلى الجنة، فيقول من بقي في النار: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}».
والحميم: القريب الذي تَوَدُّه ويَوَدُّك والمعنى: مالنا من ذي قرابة يُهِمُّه أمرنا، {فلو أنَّ لنا كَرَّةً} أي: رجعة إِلى الدنيا {فنكونَ مِنَ المؤمِنِين}.
لتَحِلَّ لنا الشفاعة كما حَلَّت للموحِّدين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت ليدخلوها.
وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها.
{وَبُرِّزَتِ} أي أظهرت {الجحيم} يعني جهنم.
{لِلْغَاوِينَ} أي الكافرين الذين ضلوا عن الهدى.
أي تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخلوها حتى يستشعروا الروع والحزن، كما يستشعر أهل الجنة الفرح لعلمهم أنهم يدخلون الجنة.
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الأصنام والأنداد {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} من عذاب الله {أَوْ يَنتَصِرُونَ} لأنفسهم.
وهذا كله توبيخ.
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} أي قلبوا على رءوسهم وقيل: دهوروا وألقي بعضهم على بعض وقيل: جمعوا مأخوذ من الكَبْكَبَة وهي الجماعة؛ قاله الهرويّ.